### **مقبرة العمالقة: أشهر الإخفاقات التي شكلت مستقبل التقنية**
في عالم التقنية المتلألئ، حيث تُبنى
الإمبراطوريات على أسس من الابتكار وتُروى قصص النجاح المذهلة لأمثال ستيف جوبز
وبيل جيتس، يوجد جانب آخر، أكثر قتامة وأهمية: مقبرة المنتجات الفاشلة. هذه ليست
مجرد حكايات عن أفكار سيئة، بل هي سجل لتجارب جريئة، وطموحات جامحة، وقرارات
كارثية اتخذتها أكبر الشركات في العالم.
![]() |
- إن دراسة هذه الإخفاقات لا تقل أهمية عن الاحتفاء بالنجاحات، فهي الدروس القاسية التي مهدت
- الطريق للثورات التقنية التي نعيشها اليوم. لكل جهاز آيفون، هناك "نيوتن" منسي؛ ولكل نظام
- ويندوز ناجح، هناك "مايكروسوفت بوب" مثير للسخرية. دعونا نغوص في تاريخ عشرة من أبرز
- هذه الإخفاقات المدويّة لنكتشف لماذا فشلت، وماذا علمتنا.
**1. Apple Newton الرائد الذي سبق عصره**
في عام 1993، وقبل أن يصبح مصطلح "المساعد الرقمي الشخصي" (PDA) شائعًا، طرحت شركة آبل جهاز "نيوتن". كانت رؤية الرئيس التنفيذي آنذاك، جون سكالي، طموحة للغاية: جهاز بحجم اليد يمكنه تنظيم حياتك، وفهم كتابتك اليدوية، والتواصل مع العالم.
- كان "نيوتن" يحمل بذور ثورة الحوسبة المتنقلة. لكن الحقيقة كانت أقل بريقًا. كانت ميزة التعرف على
- الكتابة اليدوية، وهي نقطة البيع الرئيسية، غير دقيقة بشكل كارثي، لدرجة أنها أصبحت مادة للسخرية
- في الثقافة الشعبية (حتى في مسلسل "عائلة سيمبسون").
بالإضافة إلى ذلك، كان سعره باهظًا وحجمه كبيرًا جدًا ليناسب الجيب بسهولة. عند عودة ستيف جوبز إلى آبل عام 1997، كان "نيوتن" من أوائل المشاريع التي أوقفها. لكن الدرس لم يمت؛ ففشل "نيوتن" علم آبل درسًا حيويًا حول أهمية تقديم منتج مصقول وموثوق. يمكن القول إن روح "نيوتن" وطموحه قد تجسدا لاحقًا، وبشكل شبه مثالي، في أجهزة الآيفون والآيباد.
**2. Juicero فضيحة العصير الذكي**
تُعد قصة "جوسيرو" مثالًا صارخًا على غطرسة وادي السيليكون. في عام 2016، ظهرت هذه الشركة الناشئة بمنتج باهر: معصارة عصير ذكية بقيمة 700 دولار، تتصل بالإنترنت وتستخدم أكياسًا خاصة مليئة بالخضروات والفواكه المقطعة مسبقًا لتقديم "أفضل كوب عصير ممكن". جمعت الشركة استثمارات ضخمة وسُوّقت على أنها مستقبل الغذاء الصحي.
- لكن السحر انهار في عام 2017 عندما كشف تقرير من وكالة بلومبرج أن هذه الأكياس باهظة الثمن
- يمكن عصرها باليدين وبفعالية مماثلة، مما يجعل الآلة مجرد أداة ضغط فاخرة وغير ضرورية. كانت
- الفضيحة مدوية، حيث كشفت أن الشركة باعت حلًا معقدًا ومكلفًا لمشكلة غير موجودة. انهارت
- المبيعات وأغلقت الشركة أبوابها في نفس العام، تاركةً وراءها درسًا أبديًا: لا يمكن للتكنولوجيا المبالغ
- فيها أن تحل محل البساطة والمنطق.
**3. Google Wave الطموح الذي أغرق نفسه**
أطلقت جوجل منصة "ويف" في عام 2009 وسط ضجة إعلامية هائلة، ووُصفت بأنها "ما كان ليكون عليه البريد الإلكتروني لو تم اختراعه اليوم". كانت محاولة لدمج البريد الإلكتروني، والمراسلة الفورية، والشبكات الاجتماعية، والتحرير التعاوني في منصة واحدة متكاملة. لكن هذا الطموح كان سبب فشلها. كانت الواجهة معقدة ومربكة للغاية، ولم يفهم المستخدمون الغرض منها بالضبط.
- هل هي بديل لـ Gmail؟ أم لـ Gchat؟ أم لـ Google Docs؟ من أغرب ميزاتها أنها كانت تعرض
- كل ضغطة على لوحة المفاتيح في الوقت الفعلي للمشاركين الآخرين، بما في ذلك الأخطاء وحذفها
- مما خلق تجربة فوضوية ومحرجة. كانت "جوجل ويف" منتجًا عبقريًا من الناحية التقنية، لكنه كان
- يفتقر إلى فهم واضح لاحتياجات المستخدمين، مما أدى إلى إيقافه رسميًا في عام 2012.
**4. Uber Self-Driving Cars عندما يصطدم المستقبل بالواقع**
في منتصف العقد الماضي، استثمرت أوبر المليارات في تطوير سيارات ذاتية القيادة، واعدة بمستقبل نقل خالٍ من السائقين البشر. لكن هذا الحلم الطموح تحول إلى كابوس في عام 2018، عندما صدمت إحدى سيارات أوبر ذاتية القيادة امرأة في أريزونا وأدت إلى وفاتها، في أول حادث مميت من نوعه.
- كشف التحقيق عن إخفاقات متعددة: لم يتمكن نظام السيارة من التعرف على المشاة بشكل صحيح
- وكانت سائقة الأمان الاحتياطية منشغلة بهاتفها. كان الحادث بمثابة جرس إنذار قاسٍ لصناعة التقنية
- بأكملها، حيث أظهر أن السعي المحموم للابتكار قد يتجاوز اعتبارات السلامة والأخلاق. باعت أوبر
- قسمها للقيادة الذاتية بعد الحادث، منهيةً بذلك فصلاً
مأساويًا في تاريخها.
**5. Nintendo Virtual Boy صداع ثلاثي الأبعاد**
قبل أن تنجح نينتندو في تقديم تجربة ثلاثية الأبعاد محمولة مع جهاز 3DS، كانت هناك محاولة كارثية في عام 1995 تُدعى "فيرتشوال بوي". كان الجهاز عبارة عن نظارة ضخمة تقف على حامل، تقدم رسوميات ثلاثية الأبعاد بلونين فقط: الأحمر والأسود.
- كانت التجربة غير مريحة على الإطلاق؛ فقد تسببت في إجهاد العين والصداع والغثيان لدى العديد
- من اللاعبين. علاوة على ذلك، كانت مكتبة الألعاب صغيرة جدًا (22 لعبة فقط). فشل الجهاز فشلاً
- ذريعًا وسُحب من الأسواق بعد أقل من عام، ليصبح وصمة عار في تاريخ نينتندو الحافل بالنجاحات.
**6. Microsoft Bob الواجهة التي عاملت المستخدمين كالأطفال**
في محاولة لجعل نظام التشغيل ويندوز أكثر سهولة في الاستخدام، أطلقت مايكروسوفت برنامج "بوب" في عام 1995. كانت الفكرة هي استبدال واجهة سطح المكتب التقليدية بمنزل افتراضي يمكن للمستخدمين التنقل بين غرفه. كانت هناك شخصيات كرتونية "مساعدة"، مثل كلب اسمه روفر، لإرشاد المستخدم.
- لكن النتيجة كانت واجهة تبسيطية بشكل مبالغ فيه، وشعر المستخدمون بأنها طفولية ومهينة. كانت
- المهام البسيطة تستغرق خطوات أكثر مما تتطلبه في الواجهة العادية. فشل "بوب" تجاريًا بشكل
- كبير، لكنه ترك إرثًا غير متوقع: الخط الطباعي المستخدم فيه، Comic Sans، أصبح أحد أكثر
- الخطوط شهرة (وسخرية) في العالم.
**7. HP TouchPad ضحية حرب الأجهزة اللوحية**
عندما أطلقت شركة HP جهازها اللوحي "تاتش باد" في عام 2011، كان سوق الأجهزة اللوحية تحت هيمنة شبه كاملة لجهاز آيباد من آبل. دخلت HP المنافسة متأخرة، وبمنتج يعاني من مشاكل جوهرية. كان نظام التشغيل webOS، على الرغم من بعض ميزاته المبتكرة، بطيئًا ويفتقر بشدة إلى التطبيقات مقارنة بمتجر آبل.
- بعد 49 يومًا فقط من إطلاقه ومبيعات مخيبة للآمال، اتخذت HP قرارًا صادمًا بإيقاف إنتاج الجهاز.
- تم بيع المخزون المتبقي بسعر مخفض (99 دولارًا)، ليتحول "تاتش باد" من منافس للآيباد إلى أحد
- أسرع المنتجات فشلاً في تاريخ التقنية.
**8. IBM PCjr محاولة فاشلة لغزو المنازل**
في أوائل الثمانينيات، كانت IBM ملكة الحوسبة في عالم الأعمال، لكنها أرادت قطعة من سوق الحواسب المنزلية المزدهر. كان "PCjr"، الذي أُطلق عام 1984، هو محاولتها لتحقيق ذلك. لكن الجهاز كان مليئًا بالعيوب؛ فسعره كان أعلى من منافسيه، وتوافقه مع برامج IBM PC القياسية كان محدودًا، وأداؤه ضعيفًا.
- أما القشة التي قصمت ظهر البعير فكانت لوحة المفاتيح اللاسلكية ذات الأزرار المطاطية الشبيهة
- بأزرار الآلة الحاسبة، والتي كانت سيئة جدًا لدرجة أنها أصبحت تُعرف بـ "chiclet keyboard".
- أوقفت IBM إنتاجه بعد عام واحد فقط، لتثبت أن النجاح في سوق لا يعني بالضرورة النجاح في سوق
- آخر.
**9. Sega Saturn بداية نهاية إمبراطورية**
كان جهاز "سيجا ساترن"، الذي أُطلق في عام 1994، يمتلك القوة التقنية ليكون منافسًا شرسًا لجهاز بلاي ستيشن من سوني. لكن سلسلة من القرارات الاستراتيجية الكارثية قضت عليه في الأسواق الغربية. كان أبرزها قرار سيجا المفاجئ بإطلاق الجهاز في أمريكا قبل الموعد المحدد بأربعة أشهر، مما أربك المطورين وأغضب تجار التجزئة الذين لم يكونوا مستعدين.
- كما أن بنيته المعمارية المعقدة (معالجان) جعلت تطوير الألعاب له أمرًا صعبًا ومكلفًا. بينما كانت
- سوني تبني علاقات قوية مع المطورين، كانت سيجا تخسرهم. فشل "ساترن" مهد الطريق لفشل
- الجهاز الذي تلاه، "دريم كاست"، وأدى في النهاية إلى
خروج سيجا من سوق تصنيع أجهزة الألعاب.
**10. NeXT Cube الفشل الذي بنى المستقبل**
بعد طرده من آبل، أسس ستيف جوبز شركة NeXT. كان منتجها الرئيسي، "NeXT Cube"، تحفة تقنية في عام 1990. كان يحتوي على محرك أقراص بصري، ومعالجة صوت متقدمة، ونظام تشغيل ثوري (NeXTSTEP) يعتمد على البرمجة كائنية التوجه.
- لكن بسعر باهظ بلغ 6500 دولار، كان خارج متناول الجميع تقريبًا باستثناء الجامعات والمؤسسات
- البحثية. تجاريًا، كان "NeXT Cube" فاشلاً. لكن إرثه التقني هائل؛ فعلى أحد هذه الأجهزة، اخترع
- السير تيم بيرنرز لي شبكة الويب العالمية. والأهم من ذلك، عندما استحوذت آبل على شركة NeXT
في عام 1997، لم تكن تشتري مجرد شركة فاشلة، بل كانت تستعيد ستيف جوبز وتستحوذ على نظام التشغيل NeXTSTEP، الذي أصبح الأساس الذي بنيت عليه أنظمة macOS و iOS، محرك نجاح آبل في القرن الحادي والعشرين.
**الخاتمة**
إن هذه القصص ليست مجرد حواشٍ مسلية في تاريخ التقنية، بل هي جوهر العملية الابتكارية. هي تذكير بأن كل نجاح باهر يُبنى على أنقاض محاولات فاشلة، وأن الخوف من الفشل هو أكبر عائق أمام التقدم. لقد علمتنا هذه المنتجات أن الفكرة الرائعة لا تكفي، بل يجب أن تقترن بالتوقيت المناسب، وفهم عميق للمستخدم، وتنفيذ لا تشوبه شائبة.
في نهاية المطاف، الفشل ليس النهاية، بل هو
خطوة ضرورية في رحلة طويلة نحو المستقبل، خطوة تعلمنا كيف نبدع، ونتطور، ونحقق في
النهاية النجاحات التي تغير العالم.